مصطفى البدري
من الطبيعي أن يتداخل الساسة والمفكرون والمنظرون ويتفاعلوا مع أي حالة تماوج سياسي؛ خاصة في الدول المحورية ذات التأثير الدولي والإقليمي.
لكن العجيب في حالة الانتخابات التركية هو الاشتباك الشعبي والجماهيري (العربي) بشكل عميق!!
فالأمر عند الغالبية ليس متوقفًا عند حيز المتابعة وانتظار النتائج؛ بل تجاوز ذلك وبلغ حد السعي والاجتهاد للتأثير!!
أنا لا أتكلم عن العرب المقيمين في تركيا، فهؤلاء يلزمهم الاشتباك والتداخل ومحاولة التأثير؛ لكني أقصد عموم الشعوب العربية التي لا تعرف تركيا إلا عن طريق الإعلام ووسائل التواصل.
وهذه الحالة ليست وليدة هذه الانتخابات، فقد بدأت تقريبًا منذ بداية أحداث الربيع العربي وبزوغ نجم السياسة التركية كأبرز الحواضن الداعمة للثورات الشعبية في بلادنا؛ لكن هذه الانتخابات تختلف عما سبقها (ربما) لحصول نسبة غير قليلة من العرب على الجنسية التركية، ومن ثم أصبح لهم حق المشاركة والتصويت.
والناظر للإعلام العربي وبرامج التوك شو خلال الأسابيع الماضية يظن أن الذي سينجح في الانتخابات التركية سيحكم بلداننا العربية بشكل فعلي، وأن الأمر ليس قاصرًا على التأثير السياسي الطبيعي!!
نعم بالفعل.. الجميع يعلم أن استمرار الرئيس رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية في سدة الحكم داخل تركيا مؤثر بشكل كبير على الأوضاع في بلادنا؛ ويكفي أن وجوده يحافظ على الآمال الضئيلة المتبقية في نفوس الشباب الثائر الحالم بالتغيير.
فكلنا رأى تأثيره في الوضع المصري، كما رأينا فعاليته في وقف الغزو السعودي لقطر ومواجهة الحصار الذي فُرض لسنوات على الشعب القطري، وكذلك إعاقة حفتر عن السيطرة على طرابلس في ليبيا، وما شأن سوريا عنكم ببعيد.
وبالطبع يعيش ملايين المهجرين والمطاردين من الشعوب العربية وغيرها منذ سنوات على الأراضي التركية؛ ومن ثمّ نتج هذا الاشتباك العميق.
من وجهة نظري أرى أن هذا الاشتباك صحي بشكل كبير، وإن شابَهُ بعض السلبيات.
ومن أبرز إيجابياته هو استفادتنا من الأتراك في مسألة ممارسة الحق السياسي، والمشاركة الفعالة في الاستحقاقات الانتخابية؛ فبلادنا لا تعرف شيئًا عن هذا الموضوع، خلا ما كان أيام الثورات قبل الانقلابات والتدخلات الخارجية التي حصلت ضدها.
وقد شاهدتُ مقطع فيديو للإعلامي المصري عمرو أديب وهو يبدي انبهاره من نسبة المشاركة الشعبية في الانتخابات التركية، والتي قاربت 90% ممن لهم حق التصويت؛ لكني تعجبت بالطبع من كلامه حول تعلم شعوبنا هذا الأمر وهو مؤيد وداعم للنظام العسكري الذي يمنع أي مصري من أداء دوره السياسي!!
فأديب يرى بعينه أكثر من 50% من الناخبين لا يعطون أصواتهم لرئيس الدولة دون أي أذى يلحق بهم؛ في حين يدعم نظامًا لا يتورع عن قتل وسجن وتهجير منتقديه ومخالفيه مهما كان انتقادهم رقيقًا ومهذبًا!! فضلًا عن مسارعته هو شخصيًا وبقية الشلة الإعلامية باتهامهم بالخيانة والعمالة والأخونة!!
عفوًا.. ليس مقصودي هنا الكلام عن عمرو أديب ورفاقه، ولا حتى عن النظام المصري وشركاه؛ لكن فقط استوقفني هذا المقطع.
أما بالنسبة لشعوبنا وشبابنا فيكفي رؤيتهم لهذه المشاهد ليعلموا أن التغيير ممكن، وأننا يومًا ما سنستطيع بإذن الله أن نختار حكامنا ونحاسبهم ونغيّرهم إن لزم الأمر.
فقط نحتاج إلى صبر، كما نحتاج لتنويع أساليب وخطط المواجهة.
من الإيجابيات أيضًا بروز قضية الديمقراطية على السطح والحديث المتبادل عن قبولها من عدمه، وبعيدًا عن الحكم الشرعي المتعلق بها.. أرى أن الكلام عنها من جهة المصالح والمفاسد أصبح عميقًا ومفصّلًا لدرجة تساهم بشكل كبير في تحقيق الاستفادة منها والسعي لتجنب سوءاتها.
وهذا لا يعني عدم وجود أو انتشار بعض الخطابات السطحية والأطروحات الفراغية؛ خاصة مع طغيان رواد وسائل التواصل الاجتماعي المتشبعين بالحلول السهلة بسبب الكسل المسيطر على أذهانهم وتحركاتهم!!
لكن كثرة الكتب من الطرفين (المؤيد والمعارض) من شأنه أن يعطي مساحة واسعة للدارسين والباحثين وحتى السياسيين لتبني رؤى أكثر عمقًا وأقوى تأصيلًا.
كذلك كان دور علماء المسلمين بخطابهم الشرعي المباشر أمرًا إيجابيًّا لا يمكن تجاهله أو التغافل عنه، حيث صدرت فتوى بتوقيع 66 من العلماء والدعاة والشيوخ تحض المسلمين على المشاركة والتصويت لصالح الرئيس أردوغان وحزبه؛ وهذا يعيد طرفًا من المكانة المفقودة لعلماء المسلمين!! فضلًا عن وضوح الخطاب الأممي المتجاوز للقطرية المقيتة التي سيطرت على الخطاب السياسي للإسلاميين خلال العقود الماضية!!
ينبغي والحال هكذا أن أشير إلى بعض النواقص التي ينبغي استكمالها عند المتابع العربي الراغب في التأثير والفعالية؛ وألخص ذلك في نقاط محددة كالتالي:
- لا يصح الاكتفاء في استقاء المعلومات بوسائل الإعلام العربية، بل لابد من التعاطي مع وسائل الإعلام التركية التي تَقِفُك على أدق التفاصيل؛ علمًا بأن هناك الكثير من القنوات والمواقع التركية التي تخاطب الشعوب العربية بلغتها، مثل التلفزيون الرسمي تي آر تي ووكالة أنباء الأناضول وغيرها.
- أنصح المتابع العربي بعدم التسرع في عملية التحليل السياسي، فهذا الأمر يحتاج إلى أدوات لا يملكها كل أحد؛ في حين نظن أن امتلاك حساب على إحدى وسائل التواصل الاجتماعي أو قناة يوتيوب يؤهل الشخص ليكون محللًا سياسيًا!! وها نحن نعاني من تحليلات المرجفين وتحليلات الحالمين؛ حيث نرى من الآثار السلبية لكلا الطرفين ما الله به عليم، ومن كان لابد ناشرًا.. فلينشر لأحد المختصين الأمناء، سواء وافق أحلامه أم خالفها.
- لا ينبغي النظر للمصوتين في الانتخابات التركية على أنهم فريقان: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِير} أو أنهم مؤمنون وكفار، فالمؤثر أو العامل الديني (وإن كان موجودًا بالفعل) لكنه ليس قويًا في هذه المعركة عند عامة الأتراك؛ نعم.. بعضهم يتحرك من منطلق اعتقادي مُحِب للإسلام أو مبغض له، لكنه ليس الغالب في المشهد أو حتى متوسطًا لدرجة القسمة، فالغالبية تتحرك من منظور مصلحي أو شخصي بحت، بل إني لا أكاد أجد ظهورًا لفتاوى دينية خلال عدة استحقاقات انتخابية عاصرتُها هنا في تركيا.
- لابد للناخب العربي الموجود في تركيا من صديق تركي (أمين) يرشده ويوجهه للتعامل الأمثل دون إحداث مشاكل أو التعرض لمضايقات.
وأخيرًا.. أود أن أبعث برسالة تهدئة للعرب المقيمين في تركيا.
كلنا يعرف حاليًا ما أسفرت عنه هذه الانتخابات؛ فوز التحالف الذي يتزعمه حزب العدالة والتنمية بأغلبية برلمانية، وإعادة الانتخابات الرئاسية بين الرئيس رجب طيب أردوغان ومرشح المعارضة كمال كليتشدار أوغلو.
وهذا يعني أن الأمور تسير نحو بقاء الحال على ما هو عليه (بالنسبة للعرب في تركيا).
أولًا: ربما تكون النسب بين المرشحين متقاربة (نسبيًا) لكن المؤشرات تقول إن احتمالات نجاح مرشح المعارضة ضعيفة مقارنة باحتمالات نجاح الرئيس أردوغان.
ثانيًا: حتى لو نجح مرشح المعارضة (لا قدّر الله) الذي نضح خطابه الانتخابي بالعنصرية ضد المهجّرين في تركيا، إلا أن خسارته لأغلبية البرلمان ستشلُّ يده عن أي خطوات عملية من شأنها أن تؤثر سلبًا على العرب في تركيا؛ يضاف إلى ذلك انشغاله بمعركة عنيفة طويلة مع الدولة العميقة التي تدين (إجمالًا) بالولاء للرئيس أردوغان.
لكني في نفس الوقت أحذر من التهاون بشأن التصويت في انتخابات الإعادة المقررة في الثامن والعشرين من الشهر الجاري؛ لأن هذه الأوضاع ربما تعيق وتعطل الخطوات العنيفة ضد العرب، إلا أن الوقت والفواعل السياسية والإعلامية والاجتماعية الأخرى من شأنها ألا يستمر هذا الاستقرار طويلًا.
وأظن من نافلة القول أن أذكّر بأهمية الفاعلية ومحاولة التأثير على الآخرين، استحضارًا لحديث السفينة “مثل القائم على حدود الله والواقع فيها…” الحديث؛ مع مراعاة التنويع في أسلوب الخطاب بما يناسب الطرف الآخر.
فالمسألة ليست متوقفة على أوضاع اللاجئين والمهجرين؛ بل تأثيرها كبير على الدولة التركية (اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا ودينيًّا).
ولن أكون مبالغًا إذا قلت: ستتسع دائرة التأثير حتى تشمل عموم المسلمين على وجه الأرض، كما اتسعت قبل عشر سنوات عندما انقلب السيسي على الرئيس محمد مرسي رحمه الله.
والله من وراء القصد.
Leave a Comment
Your email address will not be published. Required fields are marked with *