728 x 90

منارات الصحراء… زوايا وجوامع غات القديمة

خليفة البشباش

جل من زار مدينة غات في الماضي وسجل مشاهداته عنها، حتى لو كان ما كتبوه قصيرا ومختصرا، فإن أقلامهم تكاد تتفق أقلامهم في ما خطته على أمرين، المنظر الرائق للمدينة، بعمارتها الصحراوية المميزة، وبيوتها الطينية المتلاصقة، وأزقتها الضيقة، خصوصا للناظرين إليها من أعلى جبل “كوكمن” حيث ترتفع القلعة المعروفة المطلة على كامل المدينة الساحرة، فقد وقف هناك كاتب بولندي يدعى “فيغايسكي” في ثلاثينيات القرن الماضي ووصف منظر المدينة من الأعلى بأنها تبدو كلوحة فنية مرسومة بريشة فنان ماهر، وثمرة أتعاب رسام عبقري ذي خيال خارق.

وقد أجبر المظهر الجميل للمدينة الجيولوجي الإيطالي أورديتو ديزيو أن يخرج عن إطار كتابته العلمية ليخصص أسطرا لوصفها حيث يقول:

“غات من أجمل قرى الصحراء الكبرى الليبية وأكثرها سحرا وإثارة، تنافس في فتنتها وجمالها مدينة غدامس، وهي تجمّع من حوالي ثلاثمائة مسكن تقع فوق منبسط صخري متراصة مثل قرى القرون الوسطى تحيط بها الجدران العالية”

وهي من الداخل متاهة حقيقية .. حتى أنني أحيانا لا أميز ما اذا كنت أعبر شارعا أو أنني دخلت فناء أحد المنازل، ظلت غات لسنوات عديدة الهدف المنشود للمستكشفين العظام لشمال افريقيا”

والأمر الآخر الذي يتكرر الإشارة إليه في سياق ذكر مدينة غات، هو السمة التجارية للمدينة التي كانت عبر التاريخ أحد المراكز المهمة لتجارة القوافل الصحراوية، وقد كان لموقع المدينة الذي يتوسط الصحراء بل شبه القارة دور هام في تعزيز مكانتها التجارية، فالمدينة التي تقع على طرف وادي يسمى “تنيزوفت” يشرف على ممر واسع يفصل بين “أكاكوس” شرقا و”تاسيلي” شرقا لا تزال حتى اليوم تحتل مكانة حدودية في الجغرافيا الصحراوية والجغرافيا الحديثة للدول حيث تشكل نقطة حدودية بين ليبيا والجزائر وليبيا والنيجر، إضافة إلى حفاظها على الاستقلالية لمدة طويلة فحتى في الحقبة العثمانية ظلت تحتفظ في كثير من الفترات بقدر وافر من الاستقلال، يصف الرحالة الإنجليزي جيمس ريتشاردسون الذي زار المدينة سنة 1845م بأن تجارة غات تقوم على التبادل الحر، حيث يعفى تجار بعض الأقطار فيها من أي رسوم جمركية أو ضريبية، ويعدد الوافدين إليها قائلا:

“تفد إلى غات خلال موسم تجارتها السنوي المئات من القوافل فإلى جانب تلك القادمة من بعض المدن الهامة من أرض السودان، وبالذات من كانو، تحل أخرى من إقليم البرنو، ومنطقتي توات وسوف، ومن فزان، وغدامس، وطرابلس، وتونس ومن بعض مراكز منطقة شمال مصر كالإسكندرية والفيوم وذلك عن طريق واحة جالو”

وإضافة إلى الملاحظات التجارية والإدارية الهامة التي سجلها ريتشاردسون في يومياته من مدينة غات، فإنه اهتم بجوانب أخرى حيث كتب:

“كنت أمر كل مساء بالمدرسة الليلية بينما الأطفال يرددون دروسهم القرآنية، بشكل لا يختلف كثيرا عن رياض الأطفال في بلادي، والطريف أنني لم أشاهد من قبل مدرسة ليلية في الشمال الإفريقي، مما جعلني أنظر إليها على أنها عينة من النظام التعليمي المميز لأنها أعطت الفرصة لكل أبناء الواحة من الذكور أن يتعلموا القراءة والكتابة”

ويشيد عبد القادر جامي أيضا بعد ذلك فترة بنشاط الزوايا القرآنية لغات فقول:

“تسمع أصوات مئات الأطفال وهم يتلون القرآن بصوت عال داخل الزاوية، وتشاهد طفلا يركض متأبطا لوحه ليحفظ الآيات القرآنية المكتوبة فيه في ذلك اليوم في بيته”

وغات ليست استثناء، فقد كانت الزوايا والمساجد الليبية في الماضي هي المؤسسات التعليمية الرئيسية وفي كثير من المناطق كانت الوحيدة المتوفرة، قبل شيوع المدارس الحديثة في القرن الماضي، ويسمى المكان المخصص لتحفيظ القرآن في غات بـ”المحضر” أو “زاوية المحضر”، وكان يوجد في غات محضران، الأول بجوار الجامع العتيق، والآخر بجواز الزاوية السنوسية ولكن المحضر سابق للزاوية ولا يعرف تاريخ تأسيسه.

والزاوية السنوسية في غات –بحسب الأستاذ بشير يوشع- أسسها الحاج الأمين ابن الصديق الأنصاري سنة 1861م وكانت تحتوي على مجموعة كبيرة من المخطوطات في شتى المعارف الإسلامية واللغوية وغيرها وهو دأب أغلب الزوايا السنوسية المنتشرة في ليبيا في تلك الفترة، وتسمى هذه الزاوية أيضا بالزاوية الإسلامية، وهي ليست الزاوية الصوفية والطرقية الوحيدة في المدينة، فهنالك الزاوية القادرية والتي تأسست في أواخر القرن الثامن عشر على يد مجموعة من أعيان الطوارق، كما توجد بالمدينة زوايا للطريقة الشاذلية والطيبية.

وأما المساجد فهي كثيرة، من أهمها وأشهرها الجامع العتيق، وهو أقدم جامع بني في مدينة غات بحسب الروايات المتوارثة بين السكان، ولا يعرف تاريخ دقيق لتأسيسه، وفي سنة 1886م أثناء انتفاضة الطوارق ضد الأتراك العثمانيين، أصابت إحدى القذائف العثمانية صومعة المسجد ودمرتها، وأعيد بناؤها في ذلك العام.

ويوجد في داخل المسجد بئر حفره أهالي مدينة غات، ويقوم المسجد على عشرة أعمدة كبيرة مبنية من الطين والجير، وقد قدم عبد القادر جامي في بداية القرن الماضي وصفا للمسجد العتيق يتطابق –بحسب يوشع- مع الشكل الحالي للمسجد، حيث حافظ على طابعه المعماري عبر أزيد من قرن بين الرجلين، وهو بالتأكيد ذات الطابع الذي كان عليه المسجد عبر القرون السابقة.

ويوجد مسجد آخر قديم لكنه صغير يسمى جامع الهوني، ولا يعرف بالتحديد تاريخ بناءه ولا على من يعود اطلاق اسمه حيث يبدو أنه يشير إلى شخص من مدينة هون، ومثله في الحجم مسجد ابراهيم الذي يقع عند باب كلالة أحد أبواب المدينة الأربعة، ويشير يوشع إلى أن بانيه هو الشيخ ابراهيم ابن عبد الحميد الغدامسي المتوفى سنة 1302هجري، حوالي 1884 ميلادي أي أن المسجد بني قبل هذا التاريخ، ويشير هذان المسجدان إلى الصلات الثقافية والتجارية الوثيقة بين غات وبين بقية المدن والواحات الليبية، ويوجد مسجد ذكره يوشع في كتابه “غات.. ملامح وصور” ويسمى مسجد السوق وذكر بأنه تمت توسعته في الثلاثينيات.

وأغلب مساجد غات متشابهة، وذات طابع معماري محلي صحراوي، ومثل بقية مباني المدينة تم استخدام الطين والطوب في أحيان قليلة الحجر والطين في بنائها، كما تحتوي على زخارف ونقوش هندسية ونباتية تتميز ببساطتها، وكانت أسقف بعض المساجد مثل المسجد العتيق كانت من خشب الأشجار، حيث يشير جامي أنه كان من شجر الأثل، وقد كانت تستخدم الأشجار الصحراوية غالبا لتسقيف المباني، والأبواب أيضا كانت تصنع من الأخشاب والجلود، ومئذنة هذا الجامع على شكل هرم غير مكتمل.

إقرأ أيضًا

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

أحداث ومناشط قادمة

الأحدث

الأعلى مشاهدة

من معرض الصور