د محمد محمد يونس علي
يفرق المناطقة بين التصور والتصديق، ويقدمون تعريفات مختلفة لكل منهما، ولعل أشهر التعريفات أن التصور هو إدراك مفرد وأن التصديق هو إدراك نسبة، أي علاقة بين طرفي الإسناد.
ولا يسمح المقام هنا بمناقشة التعريفات المختلفة، ولا الدخول في تفاصيل الخلاف فيها، وحسبنا الاكتفاء بالقول إن المقصود بالإدراك هنا العلم، وبناء عليه فكأنهم يرون أن العلم بما يجري حولك إما أن يكون بتصورك لوجود المدرك، أو بإدراكك لعلاقته بشيء آخر.
فعندما تسمع عبارة الباب مفتوح مثلا، فلابد أن تتمثل في ذهنك صورة الباب وصورة الفتح من حيث هو حدث من الأحداث، ثم تدرك العلاقة بين مفتوح والباب، وهي -كما لا يخفى- علاقة إسناد أخذت صورة جملة اسمية، ونسب فيها الفتح إلى الباب.
ولابد من الإشارة هنا إلى أنهم يميزون بين ثلاثة أنواع من النسبة (أو العلاقة)، وهي النسبة الكلامية، والنسبة الذهنية، والنسبة الخارجية.
أما النسبة الكلامية فهي النسبة الصوتية أو الكتابية الناشئة عن ائتلاف طرفي العلاقة، وهما في المثال السابق “الباب”، و”مفتوح”.
وهذه النسبة تدرك بسماع المقول، وبقراءة المكتوب مباشرة، ويترتب على ذلك أن تستدعي تلك النسبة الكلامية علاقة مماثلة عادة في الذهن لما سمعناه أو قرأناه، وتسمى هذه العلاقة نسبة ذهنية، وللتوضيح أقول: مثلما يرد إلى ذهنك صورة الجمل عندما تسمع أو تقرأ كلمة جمل، فكذلك يمكنك أن تتمثل في ذهنك صورة الباب المفتوح عندما تسمع أو تقرأ جملة “الباب مفتوح”.
وأما النسبة الخارجية فهي ما يحدث في العالم الخارجي المدلول عليه بعبارة الباب مفتوح. أي صورة الباب وهو مفتوح، وهي الصورة التي يمكن التقاطها بآلة تصوير مثلا.
فإن تطابقت النسبة الكلامية مع النسبة الخارجية، وصف الكلام بأنه صادق، وإن لم تتطابق قيل عنه: إنه كاذب. فمصطلح النسبة الخارجية قريب مما يقصد في اللسانيات والفلسفة والمنطق بمصطلح truth condition في اللغة الإنجليزية.
وعودة إلى مصطلح التصديق الذي هو انفعال من المتلقي عند تلقيه عبارة مثل “الباب مفتوح” ، لابد من الإشارة إلى أنه فسر -كما ذكر سابقا- بالإدراك، ولكني أميل إلى عده مرحلة مترتبة على الإدراك، وهي المرحلة المتضمنة لقبول المتلقي وإذعانه لما يفهم من النسبة الخارجية، وليس الاقتصار على مجرد إدراكها؛ وذلك لأن العلم لا يكون إلا بالمعنى الحقيقي للتصديق، وهو لا يكون -في مثالنا السابق- إلا بالاعتقاد الفعلي لصدق عبارة المتكلم بأن الباب مفتوح، أما إن أدركنا مفهوم العبارة، ولم نصدقها، فلا يصدق علينا حصول علمنا بها؛ لأن العلم لا ينبني على ما نعتقد أنه كذب.
وبناء على ذلك فالأفضل أن نقول إن التصور هو تمثل المفرد في الذهن، والتصديق هو الإذعان والقبول بمضمون النسبة المتضمنه في العبارة كما هو مرجح عند المحققين.
ويختلف اللسانيون في أي النسبتين الأخيرتين هو المعنى، وإن كان القول بأن النسبة الخارجية هي المعنى لا يصمد أمام المنطق؛ لأن قولة مثل “الباب مفتوح ” يمكن أن يفهم معناها وإن لم تكن صادقة.
ويميل أنصار المدرسة السياقية إلى المساواة بين المعنى والاستعمال، ومن ثم فإن معنى الجملة السابقة هو طريقة استعمالها.