د. محمد محمد يونس علي
كانت قضيّة التأويل وما زالت مثار جدل كبير بين المهتمّين بها عند علماء التراث، إذ كان لعلماء أصول الفقه الإسلاميّ، وعلماء الكلام، والمفسّرين آراء مختلفة في مفهومه، والمدى الّذي يمكن أن ينتهي إليه، وفي الدّراسات الحديثة اضطرّ الباحثون إلى التعامل مع بعض المصطلحات الأجنبيّة ذات الصّلة، وذلك كمصطلح interpretation، ومصطلح hermeneutics، اللّذين اشتهرت ترجمتهما أيضًا بالتّأويل أو التّأويليّة، الأمر الّذي أدّى إلى مزيد من اللّبس، وسنحاول في هذا المقال أن نتتبّع مفاهيم التّأويل المختلفة، والتطوّرات التّاريخيّة للمصطلح في التراث الإسلاميّ، ونتناول بعض المبادئ التخاطبيّة المتّبعة في الانتقال من الحمل على الظّاهر، إلى الحمل على غير الظّاهر، مع مناقشة المسوّغات المقدَّمة لهذا الانتقال عند من يرى ذلك.
ولا بدّ من التذكير -بادئ ذي بدء- بأنّ مصطلح “التّأويل” قد عُرّف تعريفات مختلفة، وتطوّر تطوّرًا زمانيًّا واضح المعالم في بداية الإسلام، ولكنّه ما لبث أن اعتراه اضطراب في الاستعمال، حتى لا تكاد يتبيّن لك المقصود منه في بعض الاستعمالات.
والظّاهر أنّ معناه المعجميّ يتمحور حول ردّ الشيء إلى أوّله، أي إلى مآله؛ إذ لا تخفى العلاقة التأثيليّة والاشتقاقيّة بين التّأويل والمآل. ولعلّ من أقدم استعمالات ” كلمة “تأويل” التّاريخيّة في اللغة العربيّة، كما نجد في معجم الدّوحة التّاريخيّ، ارتباطه بالرؤيا، كما ورد في قول مرثد بن كُلال الحميريّ مخاطبًا الكاهنة: “أجل، هذه رؤياي، فما تأويلها يا عُفيراء؟”. وقد وردت في القرآن الكريم بمعان متقاربة، أهمّها:
تأويل الرؤيا بمعنى تحقّق الرؤيا أو أحيانا الإخبار عن كيفيّة تحقّقها، ففي قوله تعالى ” ﴿وَقالَ الآخَرُ إني أرَانِي أحْمِلُ فَوْقَ رأسِي خُبْزا تَأْكُلُ الطّيْرُ مِنْهُ نَبّئْنا بتأْوِيلهِ﴾ (يوسف: 36) يقصد بـ ﴿نَبّئْنا بتأْوِيلهِ﴾ أخبرنا بكيفيّة تحقّق هذه الرؤيا، أي كيف تحدث في واقع الأمر.
التأويل بمعنى حقيقة الشيء، كما في قصّة الخَضِر مع موسى، حين استهجن موسى -عليه السلام- من الخضر خرق السّفينة، قائلًا: ﴿أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا﴾ (الكهف: 71)، فقال الخضر: ﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ (الكهف: 78)،أي سأخبرك بحقيقة ما سألت عنه، ولم تصبر على معرفته، فتأويل الشيء هنا حقيقته. والظّاهر أنّ الآية ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ (سورة آل عمران: 5) قد جاءت على هذا المعنى.
التأويل بمعنى مآل الأمر، أي ما يؤول إليه ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ (سورة الأعراف: 53)،.
ويمكن إرجاع المعاني الثلاثة إلى التفسير أو ذكر المرادف، فتأويل الرؤيا أي تفسيرها، أي بيان أمرها وكشف حقيقتها، وتأويل ما لم تصبر عليه كذلك، أي تفسيره ببيان أمره، وذكر علّته. وأمّا يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ فهو تفسير الشيء لنفسه بظهور مآله الذي يؤول إليه، وهو العذاب الّذي آلوا إليه بسبب ذنوبهم.
وقد سار استعمال المفسّرين والسّلف المتقدّمين إجمالًا على هذا المعنى، فاستعملوا التّفسير والتّأويل بمعنى واحد، ومن أهم من اشتهر باستعمال التّأويل بمعنى التّفسير محمد بن جرير الطّبري (ت 224هـ / 838-839م) الّذي عُرِف بقوله عند تفسير آية “القول في تأويل قوله تعالى”، واستعملوا التأويل أيضًا بمعنى مرجع الخبر والطلب في واقع الأمر، أو ما يعرف بالنسبة الخارجيّة، وهو التحقّق في الواقع، فتأويل الخبر هو حصوله في العالم الخارجيّ (أي خارج اللغة والذهن، وهو الواقع)، فتأويل “خرج زيد” هو حصول خروجه في الواقع، وتأويل “اخرج يا زيد” هو حصول المطلوب منه وهو الخروج كما يذكر ابن تيميّة وغيره.
ولا ينبغي أن نغفل التطوّر المهمّ لمفهوم التأويل عند المتكلّمين، ولا سيّما المعتزلة ومتأخّرو الأشاعرة، وهو حمل اللفظ على غير ظاهره؛ لقرينة تصرفه عنه. وهذا المفهوم أصبح شائعًا في التراث الإسلامي إجمالًا إلى الحد الذي أصبح ينصرف إليه المصطلح عند الإطلاق. كما أنّه استعمل عند النحاة في سياق تقدير المحذوف والإضمار والتضمين، ونحوها من حالات إعادة قراءة البنية على غير ما تبدو عليه، واستعمله علماء البلاغة في عدد من المفاهيم السابقة، كما أنّه تأثّر عندهم بمذاهبهم وأصولهم الكلاميّة.
الحال المثلى للخطاب
ثمة شبه إجماع على أنّ الأصل حمل الكلام على ظاهره، وأنّ الحمل على غير الظّاهر خلاف الأصل، ولذا فإنه لا يصار إليه إلّا بوجود قرينة تقتضي ذلك. وواقع الأمر فإنّ التّأويل بمعنى الحمل على غير الظّاهر يحتاج إلى تسويغ، وليس إلى قرينة فقط.
وللتعامل مع هذه المسألة افترض علماء أصول الفقه مجموعة من الأصول أو المبادئ التي ترسم لنا الشكل المثالي الّذي يتوقّع أن يكون عليه الكلام، وعلى المتلقّي أن يستصحب هذه الأصول، ولا يجوز له العدول عنها إلّا بدليل يسوّغ ذلك. ومن هذه المبادئ أو الأصول:
حمل الكلام على الحقيقة دون المجاز
حمل الكلام على المساواة دون الإيجاز والإطناب
حمل الكلام على العموم دون التّخصيص
حمل الكلام على التّرتيب دون التّقديم والتّأخير
حمل الكلام على الإظهار دون الإضمار
حمل الكلام على الذكر دون الحذف
حمل الكلام على التّأسيس دون التّأكيد
حمل الكلام على اتباع المسار دون الإنابة
ولا يخفى -اعتمادًا على ما سبق- أنّ هذه الصورة المثلى للخطاب هي التي يكون فيها الكلام من باب الحقيقة (أي موافقًا للمواضعات اللغوية)، ويكون فيها اللفظ على قدر المعنى، ويكون معنى الألفاظ فيه جاريا على عمومه دون تخصيص، ويقدّم فيه ما حقّه التّقديم وضعًا، ويؤخر فيه ما حقّه التّأخير، وإذا احتمل الإظهار والإضمار أو الذّكر والحذف أو التّأسيس والتّأكيد فيحمل على الإظهار، والذّكر، والتأسيس دون قسيماتها.
فإذا ما كان هناك دليل على أنّ المتكلّم يقصد المجاز مثلًا أو أحد الفروع الأخرى المذكورة دون الأصول، فذلك يسمّى عدولًا عن الأصل، وقد سبق أن صنّفت هذا العدول إلى ثلاثة أنواع رئيسة، هي العدول الكيفيّ، والعدول الكمّيّ، والعدول الموقعيّ، وكلّ افتراض لعدول يندرج في إطار التّأويل؛ ولا يلجأ إليه إلّا بقرينة.
وسنذكر ما يشمله كل نوع من أنواع العدول فيما يأتي:
العدول الكيفيّ
يشمل العدول الكيفيّ اللجوء إلى المجاز بدلّا من الحقيقة، وتخصيص ما هو عام، وإظهار ما الأصل فيه الإضمار، أو إضمار ما الأصل فيه الإظهار، والحمل على التّأكيد بدلا من التّأسيس، والإنابة دون اتّباع المسار، كأن نستفهم بخبر، أو أن نستنكر باستفهام.
العدول الكمّيّ
يكون العدول الكمّيّ بذكر ما الأصل فيه الحذف، أو حذف ما الأصل فيه الذّكر، ويكون أيضًا بزيادة اللفظ على الفكرة، وهو ما يسمّى بالإسهاب، أو بزيادة الكلام عن مقتضى الحال، وهو ما يسمّى بالإطناب. ويكون كذلك بالإيجاز، وهو نقص اللفظ عن الفكرة، أو التعبير بألفاظ قليلة عن معاني كثيرة. وفي كلّ هذه الأحوال، فإنّ ثمّة خرقًا للمساواة المقتضية أن يكون اللفظ على قدر المعنى، وعلى قدر ما يقتضيه الحال.
العدول الموقعيّ
العدول الموقعيّ هو تقديم ما حقّه التّأخير وضعًا، وتأخير ما حقّه التّقديم، أي الانزياح عن الرتبة المحفوظة بالمواضعات اللغوية، كتقديم الخبر على المبتدأ، وتقديم المفعول به على الفاعل أو على الفعل والفاعل معًا.
والضابط العام فيما يتعلّق بالتأويل فيما سبق أنّ أي افتراض لما هو خلاف الأصل يحتاج إلى دليل أو قرينة، وعلى سبيل المثال إذا افترضت المجاز أو الإطناب أو التقديم فعليك أن تبرهن على صحّة التقدير المجازي بقرينة صارفة عن الحقيقة، ودالّة على المجاز، وعلى قولك بالإطناب أو التقديم بدليل يظهر الخروج عن الأصل.
مسوّغات التأويل
لعل من المسلّم به إلى حدّ كبير عند علماء الأصول وعند التداوليين pragmatists أن عمليّة التخاطب قائمة على التعاون بين المتخاطبين، فالمتكلّم يسعى إلى إظهار قصده لمخاطبه، والمخاطَب يبذل جهده للوقوف على قصد المتكلّم، ويسمّى إظهار المتكلّم قصده عندهم بالبيان، وأمّا المخاطّب فالمطلوب منه إعمال اللفظ إلى أن يظهر له معنى ملائم لقصد المتكلم، ولا يمكن ذلك إلا بافتراض صدق المتكلّم، لأنّه إذا افترض كذبه، فلن يستمر في إعمال اللفظ إن بدا له ظاهريًّا أنّه غير مطابق للواقع.
ويرى علماء الأصول أنّ المتكلّم حكيم، ولذا ينبغي أن يكون كلامه مستساغًا عقلا، فإن بدا كلامه غير مستساغ فعلى المخاطب أن يبحث عما يقتضيه الكلام مما يمكن أن يكون محذوفًا مقدّرًا؛ لأنّ الخطاب لا يقتصر على ما ذكر فقط، بل يشمل المحذوف أيضًا.
وبناء على ما سبق، فإن بدا للمخاطَب عدم مطابقة كلام المتكلّم للواقع ظاهريّا، فعليه -اعتمادًا على مبدأ الصدق- أن يقدّر محذوفًا للمحافظة على صدقه، وهذا ما يسمّيه جمهور الأصوليّين بالاقتضاء الذي هو نوع من أنواع دلالة المنطوق غير الصّريح. ومن أمثلته تقدير المحذوف في قوله صلّى الله عليه وسلّم: “رفع عن أمتي الخطأ والنسيان”(حديث حسن رواه ابن ماجة والبيهقي)، وتأويله رفع عن أمّتي إثم الخطأ والنسيان؛ إذ الخطأ والنسيان واقعان في الأمة الإسلاميّة وفي غيرها. وهذا موضع واحد من مواضع التّأويل المندرجة فيما يعرف بدلالة الاقتضاء. والموضع الثاني أن يقتضي الكلام تقدير محذوف للمحافظة على الصّحّة العقليّة، كما في قوله تعالى ﴿ وَسۡـَٔلِ ٱلۡقَرۡيَةَ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا﴾ [سورة يوسف: 82]؛ إذ التّقدير واسأل أهل القرية؛ لأنّ القرية لا تعقل ولا تُسأل، وإن كان ثمّة من يميل إلى تفسير “القرية” بمبانيها اعتمادًا على أنّ للقرية معنيين، كما يرى ابن تيميّة، وكما هو الحال في التعامل مع كلمة village في المعاجم الإنجليزيّة. والموضع الثالث أن يقتضي الكلام تقدير محذوف للمحافظة على الصّحّة الشرعيّة، كما في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [سورة البقرة: ١٨٤]؛ والتّقدير “فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فأفطر”؛ لأنّه لا يُلزم المريض والمسافر في رمضان بالقضاء شرعًا ما لم يفطر في مرضه أو في سفره.
وإذا كان علماء الأصول قصروا دلالة الاقتضاء على ما ذكر، فإنّه من الممكن إعادة مواضع التأويل الأخرى التي يقول بها الأشاعرة والمعتزلة وغيرهم إلى ما ذكر فيها من أسباب ثلاثة؛ لتقدير المضمر أو المحذوف، وهي المحافظة على صدق المتكلّم، ومراعاة الصّحة العقليّة والشرعيّة، إضافة إلى مناسبة السياق ومراعاة مقتضى الحال. ولعلّ ما يعرف بتأويل الصّفات في تراثنا الكلاميّ عائد إلى اعتقاد المؤولين بأنّ باعث الحمل على غير الظّاهر ملاءمته للقرائن العقليّة والشّرعيّة؛ أي أن الأصول العقديّة والمعرفيّة هي المنظار الذي ينظرون به إلى النّص، ويقرؤونه به؛ فكل تأويل لهم في سياق الصّفات الإلهيّة إنّما هو تنزيه لله -جلّ وعزّ- عما يعتقدون أنّه تجسيم إذا ما فُسّر الكلام على ظاهره، في حين يرى معارضوهم من الحنابلة ونحوهم أنّ “نفي المثل” في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [سورة الشّورى: 11] كفيل بتنزيهه تعالى عن مماثلة المخلوقات، وأنّ التشابه في إثبات الصّفة لا يقتضي التشابه في الكيفيّة؛ وما ورد من نصوص في الصفات إنّما هو إثبات لوجود الصفة، وليس تفصيلًا لكيفيّتها.