مصطفى البدري
عندما بدأ الشعب المصري حراكه في الخامس والعشرين من يناير عام 2011 لم نكن متفائلين كثيرًا، وكان أكثر ما نظن تحقيقه هو تخفيف القبضة الأمنية القمعية التي تمارس ضدنا تمهيدًا لتوريث الحكم لجمال ابن الرئيس مبارك.
وكان الغباء الأمني في التعاطي مع الحراك أول الأمر سببًا في ازدياد الأعداد وعلو سقف الطموحات والمطالبات لأقصى حد؛ حتى ارتفع شعار (الشعب يريد إسقاط النظام).
وما فتئ النظام ومحركوه أن فطنوا لخطئهم فبدأوا سياسة الاحتواء والتخدير من أول دخول الجيش في المعادلة وتغيير الهتاف الشعبي ليصبح (الجيش والشعب إيد واحدة) مرورًا بإعلان مبارك عدم ترشحه في الانتخابات القادمة، وصولًا لخطاب التنحي يوم 11 فبراير!!
دارت الأيام وتقلبت الأحوال على مدار عامين ونصف كلها مكر وخبث وكيد وتلاعب ليعود النظام العسكري لسدة الحكم مرة أخرى بإعلان انقلابه على الإرادة الشعبية والرئيس المنتخب (الدكتور/ محمد مرسي. رحمه الله) وذلك في يوم 3 / 7 / 2013.
وانتفض عموم الشعب المصري رفضًا لهذه الانتكاسة، وخرجت المظاهرات وتجمعت التكتلات، حتى استقرت على اعتصامين كبيرين في ميداني رابعة والنهضة بقلب القاهرة والجيزة، وكانت تخرج بعض المظاهرات منهما بين الحين والآخر في اتجاهات مختلفة، وبالطبع كانت المواجهات الأمنية المسلحة شديدة وعنيفة أمام متظاهرين سلميين، حتى ما ترجع مظاهرة إلا بعدد من الشهداء وأعداد كبيرة من الجرحى والمصابين.
كانت عمليات القتل هذه عبارة عن رسائل واضحة من عسكر مصر أنهم لن يسمحوا بعودة الشرعية المنتخبة مرة أخرى، كما كانت تجس نبض المجتمع الدولي تجاه مثل هذه الدموية المفرطة في التعامل مع المظاهرات والاعتصامات.
وفي ضمن هذه السياقات قامت قوات الجيش والشرطين بمجزرتين (صغيرتين)، إحداهما عند الحرس الجمهوري والثانية عند المنصة؛ حيث كانتا بمثابة تجربة وتدريب على عملية (مجزرة) الفض الكبرى التي يعلم الجميع أن الخسائر البشرية فيها ستكون مفجعة!!
مضت الأيام والأسابيع، وتخلل ذلك شهر رمضان وعيد الفطر المباركين، وكانت أجواء الاعتصامين متناغمة بشكل كامل مع المناسبتين، فطوال رمضان قيام ومواعظ وخواطر ودعوات.. إلى غير ذلك من الأجواء الإيمانية الرقيقة، وكذلك أيام العيد كانت أجواء احتفالية راقية شهدها العالم أجمع عبر شاشات التلفزيون التي تبث مباشرة من الميدان.
وبعيد أيام العيد الحميلة.. كانت الأخبار تتطاير الفينة بعد الفينة عن استعداد النظام لليوم المرتقب (فض الاعتصامين) حتى تأكدت الأنباء يوم الثالث عشر من أغسطس أن صبيحة اليوم التالي هو الميعاد المرتقب.
لم تكن مجرد أنباء عامة خالية من التفاصيل، بل كانت تحمل في طياتها مراكز تجمع قوات الأمن وأوقات تحركهم ونوعية تسليحهم وطرفًا من خطتهم في الانتهاء المبكر من العملية ونيتهم الواضحة في القتل والتنكيل بكل المعتصمين!!
في هذه الليلة اتصل بي أحد ضباط الأمن وأخبرني بكل التفاصيل، فذهبت بدوري إلى قيادات الاعتصام في ميدان رابعة لأخبرهم بما بلغني، لم يصرحوا لي بأنهم على علم بذلك، لكن انطباعاتهم وردود أفعالهم كانت تحدثني بأني لم آتِ بجديد.
سألتهم عن مدى استعدادهم لهذه اللحظة؛ فوجدت أن كل فكرهم قائم على الصمود (وليس الصد) أطول وقت ممكن، لربما يحدث إرهاق لقوات الأمن فيضطروا للرجوع دون إكمال المهمة (ويعتبر هذا في حد ذاته انتصارًا للاعتصام).
وبالطبع تواصلت مع أصدقائي في ميدان النهضة وأطلعتهم على الأمر بالتفصيل؛ وكان الضابط قد أكد عليّ ان المجزرة في النهضة ستكون أبشع؛ استغلالًا لقلة تسليط الضوء الإعلامي عليهم.
وقت الفجر اتصل بي نفس الضابط ليؤكد لي تحرك القوات تجاهنا وفق الخطة التي أخبرني بها سابقًا.
قبل شروق شمس الرابع عشر من أغسطس عام ألفين وثلاثة عشر بدأت قوات الخوف والرعب بآليات ومدرعات حربية في محاصرة المكان بالكامل، وظهر القناصة على أسطح المباني المرتفعة، كما أقبلت الطائرات الهليكوبتر تحلق حولنا.
وكما أخبرني الضابط كانت ساعة الصفر تمام السادسة صباحًا، وبدأوا بإطلاق وابل من الرصاص من كل الاتجاهات، وكانت الطائرات كفيلة بإيصال الرصاص إلى قلب الميدان مباشرة، كما تكفل القناصة باستهداف كل من يحمل كاميرا ومن يلبس كمامات واقية من الغاز المسيل للدموع!!
ويبدو أن المعركة الأهم بالنسبة لهم كانت هي سيارة البث التلفزيوني الموجودة داخل الميدان؛ حيث تمركز عدد من المدرعات والآليات في المدخل المؤدي إليها، وقاموا بإطلاق المقذوفات كبيرة الحجم شديدة الانفجار على مكان تواجدها.
وهذا دليل واضح على رغبتهم في إخفاء الحقيقة، حتى يصفو لهم بعد ذلك سرد الرواية التي اتفقوا عليها مسبقًا مستعينين بفيديوهات ممنتجة مفبركة على أيدي مخرجين محترفين!!
وبالفعل تم لهم مرادهم، ولم تصمد سيارة البث طويلًا (ولكم أن تتخيلوا كم قتلوا ودهسوا حتى وصلوا إليها ودمروها بالكلية)؛ وهنا بدأت عملية الاقتحام بالآليات والمدرعات مدعومة بقذائف ورصاصات خارقة حارقة!!
(كما كانت الخطة) في غضون ساعات قليلة تواردت الأنباء عن انتهاء مجزرة ميدان النهضة وفض الاعتصام بالكامل؛ في حين كان صمودنا أطول في رابعة لأسباب وعوامل يطول ذكرها.
وكنت (بسبب مسؤوليتي عن عدد لا بأس به من الإخوة والأبناء) كثير التنقل بين أطراف الميدان ومحاور الاقتحام، وكنت حريصًا على ألا يقع أحد من الشباب معي أسيرًا بيد هؤلاء المجرمين (وهو ما تم بحول الله) لكن بالطبع فقدنا عددًا من الشهداء فضلًا عن الجرحى والمصابين.
لاتزال صور الرؤوس والأعضاء المتفجرة بنوع خاص من الرصاصات فضلًا عن الجثث والأشلاء ماثلة أمام عيني عالقة في ذهني، بما يؤكد لي ولغيري أن الأمر لم يكن مجرد محاولة فض اعتصام؛ بل كان انتقامًا ممن سولت لهم أنفسهم الثورة على النظام، والطمع في حكم مصر عن طريق أبنائها المخلصين!!
كنت أرفض دخول أحد من المصابين للعلاج داخل المستشفيات الميدانية لاكتظاظها وتخفيف الحمل عنها؛ لكني ما تصورت أبدًا أن تكون نهايتها الحرق بيد هذه العصابات التي لا ترقب في مؤمن إلًا ولا ذمة!!
قرب العصر اشتد الحصار علينا ولم نكن قد صلينا الظهر بعد، فاجتمعت مع بعض الأصدقاء في قلب الميدان وصلينا الظهر والعصر، واتفقنا آنذاك على محاولة الخروج، ورغم أننا لم نكن على دراية بما يفعله أهل الغدر والخيانة بمن ذهب إلى ما أسموه (ممرات الخروج الآمنة) إلا أننا قررنا المخاطرة والخروج من وسط المباني والعمارات بشكل عشوائي، عسى أن يعيق ذلك ملاحقتنا؛ ففوجئنا أن الهليكوبتر هي التي تتبعنا وتطلق الرصاص جهتنا!! فكان من فضل الله علينا أن خرج أحد البوابين وسحبنا إلى داخل العمارة وقام بتخبئتنا في مكان يشبه المخزن.
ولأن هذا البواب رجل صعيدي أصيل لا يرضى بما يحدث.. ظل يخرج ويأتي بمن يقدر عليه ليخبأه داخل العمارة في أماكن متعددة، حتى انتبه لذلك بعض السكان، فصاروا يصيحون وينادون على قوات الذعر والهلع المنتشرة بالمحيط حتى اقتحموا العمارة واعتقلوا عامة من كانوا مختبئين بداخلها ومعهم البواب الشهم الشجاع؛ كنا فقط نسمع الأصوات لأنهم (بحمد الله) لم يأتوا إلى مكاننا، حتى انصرفوا وبدأنا نستعيد أنفاسنا المحبوسة، إذ تأتينا زوجة البواب لتشكو لنا اعتقال زوجها (وكأنها تقول لنا: أنتم السبب) فقلنا لها: هل نخرج ونسلم أنفسنا لعله ينجو؟ قالت بقوة: لا؛ أنتم أبناؤنا، ولا نسلمكم أبدًا. ثم رجعت تبكي لأجل زوجها، وقالت لنا وهي مولية: خدوا بالكم من نفسكم.
ظللنا في هذه الحالة حتى غربت الشمس وبدأ الظلام يملأ الأرجاء، وشعرنا وقتها بتوقف إطلاق الرصاص كعلامة على انتهاء المجزرة وفض الاعتصام بالكامل.
وهنا قررنا الخروج والبحث عن سبيل للمرور من الحواجز الأمنية المحيطة بالمكان؛ العجيب أننا تسللنا من واحد بطريقة ما ثم فوجئنا بعد حوالي خمسين متر بحاجز آخر لقوات الجيش، فلم نجد بدًا من الدخول عليهم ياعتبارنا من سكان المنطقة، ففتشونا جيدًا ثم تركونا بعدما عجزوا عن إيجاد ما يدل على أننا من المعتصمين.
خرجنا نلملم جراحنا النفسية والمعنوية ونتواصل مع أصدقائنا لنعرف أخبار الناجين والمستشهدين والمعتقلين والمفقودين. ثم قمنا بإخبار أهلنا بنجاتنا والحمد لله رب العالمين.
في الختام.. رغم مرور عشر سنوات على هذه المجزرة البشعة؛ إلا أنني لم أتمالك نفسي للكتابة عنها إلا الآن، فهذه هي المرة الأولى التي أسطر فيها شهادتي كاملة على هذا اليوم العصيب؛ علمًا بأنني كتبت ما عاينته، ولم أكتب ما رواه لي الأصدقاء ولا ما شاهدته بعد ذلك من صور وفيديوهات؛ وهي أبشع وأفظع بكثير مما ذكرت هنا!!
وأسأل الله العون على كتابة وتفصيل الأحداث السابقة واللاحقة لتستفيد منها الأجيال الصاعدة ولتدارك الأخطاء فيما هو مستقبل من الأحوال.
اللهم ارحم شهداءنا وتقبلهم في الصالحين وارفع درجتهم في عليين واحشرهم في زمرة النبيين والصديقين والصالحين، واقبل فيهم عبدك محمد مرسي بمنك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.