728 x 90

مقال بعنوان: من يقرر هوية سوريا المحررة، بقلم الشيخ أحمد القصص

مقال بعنوان: من يقرر هوية سوريا المحررة، بقلم الشيخ أحمد القصص

من يقررّ هوية سوريا المحرّرة؟

الشيخ/ أحمد القصص

يقول الله تعالى في كتابه العزيز: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا}.

روي في مناسبة نزول هذه الآية؛ أنّه كان بين رجل من اليهود، ورجل من المنافقين خصومة، فكان المنافق يدعو إلى اليهود، لأنّه يعلم أنّهم يقبلون الرشوة، وكان اليهودي يدعو إلى المسلمين، لأنّه يعلم أنّهم لا يقبلون الرشوة. فاصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن من جُهَيْنة، فأنـزل الله فيهم هذه الآية. فهذا الكاهن سمّاه الله تعالى في كتابه بالطاغوت؛ فكلّ تشريع غير شرع الله اسمه في كتاب الله تعالى طاغوت، وكلّ معبودٍ غير الله تعالى هو طاغوت، وكلّ مشرّع غير شرع الله اسمه طاغوت.

أمّا ما يعبد من دون الله فقد قال الله فيهم بعد آية الكرسي: {فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا}. فكلّ إيمانٍ غير الإيمان بالله تعالى هو إيمانٌ بالطاغوت، وكلّ تحاكم إلى غير شرع الله هو تحاكم إلى الطاغوت فكلمة طاغوت كلمة دالّةٌ على كلّ ولاءٍ لغير الله سبحانه وتعالى وخارج إطار الولاء لله تعالى، فالتوجّه بالعبادة لغير الله توجّه إلى الطاغوت، وتحكيم غير شرع الله هو تحكيم للطاغوت؛ فإن ذهبتَ الى قاضٍ يحكم بالقانون الوضعي فقد ارتضيت حكم الطاغوت. فالقاضي الذي يحكم بغير ما أنزل الله اسمه طاغوت، وشرعه الذي يحكم به اسمه أيضا طاغوت.

 

 

أيّها الإخوة:

عند تبدّل الدول يقفز فورا إلى الساحة الكلام عن تبديل الدستور والقوانين. فإمّا أن يعدّل الدستور وإما أن يبدّل وتعتمد قوانين جديدة وبلادنا بلاد الشام تشهد هذا التبدل الآن. وقلوبنا متعلّقة بما يجري في سورية، ذلك الجزء العزيز من بلاد الإسلام؛ ومن يدري لعلّنا عمّا قريب نرى الحدود التي رسمها الكافر المستعمر الفرنسي بيننا وبينهم قد محيت وعُدنا نحنُ وأهلُ طرطوس، وحمص، وسائر تلك البلاد امتدادا واحداً؛ وفي كل الأحوال أهل الإسلام قضيتهم واحدة أينما كانوا.

والقضية المعروضة على أهل سوريا اليوم: ماذا نفعل بالدستور؟ وماذا نفعل بالقوانين القائمة؟ ماذا ستعتمدون أيّها الحكّام الجدد للبلاد دستوريا وقانونيا؟ ما الذي سترعون به شؤون الناس؟ ما القوانين التي ستطبّقونها؟ فإذا بدول العالم كلّه من شرقه وغربه تسارع من أجل أن تطمئنّ: هل ستطبّقون الشريعة الإسلامية؟ هل ستعتمدون دستورا إسلاميا؟ إن طبّقتم الشريعة فهذا يعنى أنّكم عزمتم على ظلم الأقلّيات، وعلى قهر النصارى والدروز والعلويين…

جاء الأمريكان، وجاءت أنظمة العرب، وجاءت الأمم المتّحدة، وعمّا قريب جامعة الدول العربية. من أجل ماذا؟ من أجل أن يطمئنّوا إلى أن الشريعة لن تعتمد دستورا وقانونا في سوريا!

هذا الكلام حين يوجّه للمسلمين فأبرز ما فيه العداء والوقاحة، أن تأتي لتقول للمسلمين: نحن لا نرضى بشرعكم, لأنّ إقامة شرعكم تعني الظلم والقهر.

هؤلاء هم الذين غضّوا النظر عشرات السنين عن حكم المجرمين الذين عاثوا في الأرض فسادا. لم تستفزّهم تلك الممارسات، ولم يستفزّهم قتل مليون إنسان، ولم يقولوا: هذا انتهاك لحقوق الإنسان، ولم يقولوا هذا ظلم للأكثرية. لم يستفزّهم تهجير حوالي خمسة عشر مليون إنسان من أهل سورية، بل كانوا في السنوات الأخيرة، كما شاهد الجميع، يغازلون ذلك الطاغية، ويدعونه للتطبيع، ويعيدونه إلى ما يسمى بالحضن العربي، ويدلّلونه. وحين انطلقت آخر معركة

للمجاهدين، وقبل أن يتبيّن لهم أنّ هذا النظام سينهار بلمح البصر، كانت تتوالى الاتّصالات لدعمه ضدّ “الإرهاب”. لم يخطر في بالهم أن بيت العنكبوت هذا سوف ينهار في لمح البصر بعد أن حُطّمت قوات إيران التي كانت تحميه وتسنده، وبعد أن وجد الروسي أن لا مصلحة له بعد اليوم، فانهار في لمح البصر. والآن يتسارعون لخطب ودّ الحكّام الجدد في سوريا، لتعرفوا أنّ هؤلاء سياسيون بلا مبدأ وبلا كرامة وبلا هيبة.

 

ما يريدونه للدولة الجديدة هو أن تكون عضوا صغيرا مهذّبا في محفل المجتمع الدولي، تتلقّى أوامرها من السيّد الأمريكي، وترعى جميع مصالح الدول الكبرى، وتكون جزءا من المنظومة الإقليمية التي يتربّع كيان اليهود على زعامتها بعد أن صال وجال وقتل عشرات الآلاف من الأبرياء في فلسطين ولبنان. يريدون لسورية الجديدة أن تكون جزءا ممّا يسمّى بالشرق الأوسط الجديد، الذي يصوّرونه للناس وكأنّه الشرق الأوسط الجميل، حيث الازدهار الاقتصادي والإنماء والإعمار الذي يشرف عليه المعلّم الأكبر من البيت الأبيض، وحيث يكون العضو الأكبر فيه كيان يهود. يخطّطون لبنية تحتية تتكامل فيها المنطقة كلّها: سورية ولبنان وفلسطين وكيان يهود والعراق ومصر… فهم يرون أنّ هذا التكامل الاقتصادي المتشابك من شأنه أن يجعل سورية الجديدة أسيرة لبرامج تحُولُ دون أن تكون ذات قرار مستقلّ. لا يريدون لبلاد الشام أن تكون نموذجا لكيان الإسلام، ولا أن يقدّم للعالم صورة الحياة السياسية الإسلامية التي هي نموذج لم يعرفه العالم منذ أكثر من قرن من الزمان، بل إنّ هذا هو أكثر ما يخشونه.

 

أمّا المؤمنون المخلصون لدينهم فيجب عليهم في مواجهة هذه المؤامرة أن يكونوا على يقين من أنّ الله سبحانه وتعالى حين شرع شريعته للناس ليعتمدوها ويطبّقوها في حياتهم، فإنّه لم يشرعها فقط من أجل أن يتعبّد بها عباده. فغاية الشريعة الإسلامية لا تقف عند التعبّد فقط.

فليست القضية أنّنا نريد أن نطبّق الشريعة فقط لمجرّد التطبيق بصرف النظر عن قضية النهوض بالناس، ولا بصرف النظر عن العدالة الاقتصادية، ولا بصرف النظر عن الاستقرار المجتمعي. لا، ليس الأمر كذلك فنحن فوق كوننا نعبد الله تعالى بتطبيق شرعه ورعاية شؤون الناس به، فإنّنا على يقين بأنّه لا يصلح أصلا للناس دستور أو قانون غير ما شرعه الله تعالى.

فشرع الله حينما يطبّق فإنّه يعالج مشكلات الناس. وهو الذي يرتقي بالبشرية. وهو الذي يوصلها إلى السعادة وبرّ الأمان. وهو الذي ينشئ نظاما اقتصاديا عنوانه العدل في توزيع الثروات، لا كما فعل النظام الرأسمالي المجرم الذي يسيطر على العالم الآن، والذي ركّز ثروات البشرية في فئة قليلة من الناس، حيث يملك قلّة من الأفراد عشرات المليارات ممّا لا تملكه دولة، بينما يتقاسم سائر الناس فتات هذه الثروات… هذا النظام المجرم يأتي روّاده إلى سورية الآن ليعلّمونا كيف تكون التنمية، وكيف يكون الاقتصاد، وكيف يكون الإعمار. يعلّموننا كيف ينبغي أن نعيش، ويقولون لنا: ليس لكم سوى طريقتنا المثلى في العيش. يزعمون بكلّ وقاحة أنّ حياتهم المنتنة التي سادتها الجريمة والبغاء والرذيلة والشذوذ ووحشية رؤوس الأموال… هي الطريقة المثلى في العيش للبشرية كلّها.

أمّا نحن فواجبنا أن نقول لهم: نحن نعلّمكم أيّها التائهون.. نحن نعلّمكم أيها الجاهلون طريقة العيش المثلى. نحن الذين قال الله في كتابه الذي أنزله علينا: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا}، والماء الغدق كناية على الرزق الوفير. نحن الذين أخبرنا الله تعالى أنه {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}. قال المفسّرون: إنّ الحياة الطيّبة هي حياة الكرامة، وحياة السعادة. نحن الذين أخبرنا الله سبحانه وتعالى في كتابه أنّ المجد والشرف في اعتماد شرعه فقال: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ}. والتاريخ شاهدُ على ذلك. فحين كان السلطان في الأرض لأمّة الإسلام وكانت ثروات الأرض تحت تصرّف المسلمين تصرّفوا بها وفق شرع الله سبحانه وتعالى، فعرف العالم وعرف التاريخ ازدهار الاقتصاد وعدالة

توزيع الثروة. فلم يستأثر المسلمون بثروات الأرض وحدهم دون سائر الناس، ولم تُرعَ في دار الإسلام شؤون المسلمين وحدهم، وإنّما كانت عدالة النظام الإسلامي تشمل كلّ رعايا الدولة الإسلامية. وكلّ من كانوا يعيشون في الدولة الإسلامية من مسلم ونصراني ويهودي ومجوسي كانوا ينعمون بعدالة الإسلام. ولم يكن هناك محاكم يقف أمامها المسلمون متميّزين من غيرهم، بل كان الرجل من أهل الذمّة إن أصابته مظلمة من مسلم احتكم إلى القاضي فيأتى القاضي بهما معا ويجلسهما أمامه على السوية دون تمييز بين مسلم وغير مسلم، ويفصل الخصومة بينهما بشرع الله، فإن تبيّن أنّ الحقّ للمسلم أخذه، وإن تبيّن أنّ الحقّ للذمّي أخذه. هذا النظام الذي طبقناه مئات السنين.. هذا النظام هو الذي يجب أن يطبّق في بلاد المسلمين، بل هو الذي يجب أن يُحمل رسالة إلى العالم، لأنّ العالم كلّه بحاجة إلى دين الله وشرعه، وبحاجة إلى تلك الرحمة المهداة التي قال الله تعالى فيها وفى نبيه ﷺ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}

إقرأ أيضًا

أحداث ومناشط قادمة

الأحدث

الأعلى مشاهدة

من معرض الصور