728 x 90

مقال بعنوان: من غزة إلى دمشق: حين تصوب المقاومة بوصلة العالم

مقال بعنوان: من غزة إلى دمشق: حين تصوب المقاومة بوصلة العالم

مقال بعنوان: من غزة إلى دمشق: حين تصوب المقاومة بوصلة العالم، بقلم: يوسف لطفي.
نُشر المقال يوم الأحد الموافق 9 مارس 2025.

المقاومة من منظور استراتيجي:

بعد أكثر من 450 يوما من إطلاقها، لم تعد عملية طوفان الأقصى ترسم ملامح المشهد الجيوسياسي الإقليمي والدولي فقط وإنما أعادت تشكيل الوعي العالمي والعربي لتصنع بذلك واقع مغاير بالكلية لما قبل السابع من أكتوبر 2023.

ولد الطوفان في ظل مشهد إقليمي قاتم، فمن موجة التطبيع الثالثة (السلام مقابل السلام)، مرورا بانكسار ثورات الربيع العربي وتسويات القوى الإقليمية المتنافسة على أنقاض الربيع، وصولا إلى تمدد الاستيطان في الضفة والقدس واندماج حكومة اليمين الصهيوني في المنطقة العربية، بدا كأن الواقع العربي والإسلامي قد خضع للتسويات الإقليمية ومشاريع الاستبداد والتطبيع. دفعت هذه الظروف مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان قبل الطوفان بأقل من شهر للتصريح “إن منطقة الشرق الأوسط اليوم أهدأ من أي وقت خلال العقدين الماضيين”، فيما ظن كثير من المراقبين أنهم يقفون أمام الحالة التي ستعيشها المنطقة لعقود قادمة.

لم تربك الحرب الجارية منذ سنة ونصف المعادلة الأمنية والجيوسياسية فقط، وإنما وضعت الأطراف الدولية أمام استحقاقات سياسية وقيمية كبرى، وأعادت تشكيل الوعي العالمي على مستوى الإيمان بالقيم الليبرالية وشرعية المنظومة الدولية، كما هزت شرعية الأنظمة الإقليمية المتواطئة مع عملية الإبادة الجارية في غزة، وهي تحولات سيكون لها تبعات على استقرار بناء المنظومة الدولية ومكونها الأساسي (الدولة الوطنية) التي استنزفت رصيدها السياسي والأخلاقي.

تحاصر المقاومة دوما بسؤال الجدوى في ظل فارق الإمكانيات والقوة مع العدو، لكن المغالطة هنا هي أن المقاومة لم توجد إلا لهذا السبب وهي لا تبحث في مهمتها الكبرى عن تقديم إجابة على معادلة القوة ومعضلات البيئة الجيوسياسية التي تولد فيها، فهذا ليس ضمن تعريفها كمصطلح ونظرية وتجربة، لأنها تعني في أوضح وأبسط معانيها مجرد الرفض، وعلى مستوى أعمق فإن غاية المقاومة هي تفكيك شرعية العدو عبر إعجازه وإنهاكه وإغراقه في العنف ووضعه هو أمام الخيارات الصعبة، فهي معركة صبر وتحمل في الأساس.

في التفكير الاستراتيجي لا تبحث المقاومة عن الانتصارات العسكرية أو التمدد على الأرض، وإنما تهدف للتمدد في الوعي وتوسيع شرعيتها على حساب العدو وتفكيك أسباب بقائه. في أفغانستان استمرت المقاومة عشرين عاما، قبل أن تتوج بانسحاب القوات الأمريكية في مايو 2021، كان ذلك صراعا لم تنتصر فيه حركة طالبان عسكريا بالمعنى التقليدي، أي أنها لم تدفع العدو للانسحاب بفعل تحطيم إمكاناته العسكرية أو كسر معادلة القوة، وإنما كان انتصارها استراتيجيا بدفع العدو إلى نقطة الانهيار السياسي والعجز عن تبرير وجوده ضمن حساباته الاستراتيجية، ففي صراع من هذا النوع أنت تعمل دوما ضمن معادلات وحسابات أكبر تحيط بك وبعدوك. هدفك الجوهري أن تتضخم في وعي العدو ومخيلته وأن تنتهز الظرف الزماني والمعنوي لإحداث الصدع تلو الآخر في جدرانه وصورته وخلخلة تماسكه وبنائه، هدفك رفع سقف الممكن في الوعي الجماهيري وإيقاد أفكار الحركة والعمل، إنها معركة معنوية تنفذ بالبنادق والعبوات، وهي عملية لا تخلو من المغامرة برأس مالك في كل كرة.

 

 

 

التكلفة والفرص السانحة:

عبر تاريخها بدت معارك المقاومة دوما غير منطقية للكثير، تواجه دوما بأسئلة معضلة عن التكلفة مقابل الربح، وعن كيفية مواجهة عدو قادر على تحطيمك؟ طرحت هذه الأسئلة في أيرلندا وكوبا وأفغانستان وغيرها، وتطرح اليوم في فلسطين وهي أسئلة الجاهل ببنية مشاريع الاستبداد والاحتلال والتزاماتها، وبطبيعة الصراع ومقتضياته.

استراتيجيا تستند المقاومة على قاعدة “الصراع الثلاثي”، بمعنى أنها تعتمد على حقيقة أنها لا تخوض معركتها في الفراغ وإنما في ظل بيئة ديناميكية مكونة من عناصر وأطراف أخرى، وهي عوامل تضع العدو الأقوى أمام حسابات أكثر تعقيدا تشمل علاقاته مع محيطه الخارجي وبيئته الداخلية. ولا تتوقف نظرية ثلاثية أبعاد الصراع عند وجود قوى أخرى في معادلة المواجهة فقط، وإنما تشمل وجود مستويات أخرى للصراع، ففجوة القوة التي يعتمد عليها المحتل أو المستبد لبسط السيطرة على الأرض تشكل المستوى الأول في معادلة الهيمنة والحكم، في حين تخضع استدامة مشروعه لمقتضيات أخرى، حيث يتطلب الحكم اجتماعا سياسيا متماسكا، وحالة اقتصادية مستقرة، ومشروعية سياسية وأخلاقية، وفي الجوهر من كل ذلك علة مركزية للوجود، فهذه كلها أساسات تهتز مع كل عملية من عمليات المقاومة.

تشكل البيئة الداخلية الموصوفة، بالإضافة للمحيط الخارجي بما فيه من خصوم ومساحات تنافس ومعارك قائمة ومؤجلة، يشكل كل ذلك البيئة التي تتحرك فيها المقاومة، ما يضع قوى الهيمنة أمام تحديات متداخلة ومركبة، تلعب المقاومة فيها دورا المشاغلة والتحفيز، حيث يستدعي تركيز القدرات في مواجهة المقاومة والانشغال بها إلى حدوث خروقات على جبهات أخرى وتفاقم الأزمات القائمة. في 2003 استدعى تركيز إدارة بوش على الحرب في العراق وأفغانستان خفض حجم قواتها في الصومال وتحويل أهم مواردها العسكرية والمخابراتية لمواجهة المقاومة العراقية، أدى ذلك إلى تحول كبير في الاستراتيجية الأمريكية في الصومال والقرن الأفريقي للتحول من عملية شاملة ضمن مشروع مكافحة الإرهاب إلى عملية محدودة بالإشراف على بعض القوات المحلية ما أدى إلى فشل الحملة في المحصلة.

وفي ظل انهماكها في حروب “مكافحة التمرد” في أفغانستان والعراق والصومال، واستمرار الانتفاضة الثانية وأعمال المقاومة في الضفة الغربية وغزة دفعت إدارة بوش حكومة شارون لحلحلة الأوضاع عبر استراتيجية أمنية جديدة تهدف لإعادة تشكيل السلطة الفلسطينية وقمع الانتفاضة في الضفة، وقد تطلب ذلك تفكيك مستوطنات قطاع غزة والانسحاب من القطاع المكتظ ومن بعض مستوطنات الضفة.

تكشف الأمثلة السابقة عن مركزية “الفرصة والتكلفة” في مفهوم وتجربة المقاومة، فشارون الذي كان مهندس تمدد الاستيطان وصاحب نظرية الأصابع الخمسة لتقسيم قطاع غزة، كان هو من هدم مستوطنات القطاع بيده، لأن الاحتلال ومن خلفه الولايات المتحدة أدركوا أن تكلفة إدارة المعركة في الضفة وغزة بالتوازي عالية، وعلى الرغم من تحمل غزة لعبء المواجهة مع الاحتلال منذ انسحابه من القطاع إلا أنه مثل فرصة للمقاومة لتطوير بنيتها التحتية وفرض نفسها كلاعب سياسي محوري.

 

بندقية بألف مدفع!

من غزة إلى دمشق صنعت صواريخ المقاومة ورصاصها قناة عبور لحالة جيوسياسية مختلفة تماما، فطبيعة البيئة المركبة التي تتحرك فيها المقاومة والنوافذ التاريخية المفصلية التي تعمل من خلالها، تجعل لرصاصها وقعه الخاص على محيطه، حيث طلقات معدودة قد تفتح بوابة التاريخ لواقع جديد.

قدمت المقاومة تاريخيا مثالا عمليا على قدرتها على إعادة صياغة البيئة المحيطة بها، ذلك أن فعلها دوما موجه نحو قوى النظام الرسمي أو السائد، فكل ضربة تمثل فرصة لخلخلة حالة الإحكام عبر فتح النافذة للأطراف

الثالثة وتحفيز القواعد الشعبية وبؤر التمرد وتفعيل ومفاقمة الأزمات، وبمعنى آخر فإن عمليات المقاومة تصنع حالة كاملة تفتح الباب لاحتمالات كثيرة تهدد استمرار سطوة النظام السائد وبقائه.

ونحن نتأمل كيف تحدث قوى المقاومة والتمرد انقلابات كبرى في الخرائط الجيوسياسية بإمكاناتها المحدودة، يجب أن نستدعي أنهار الدماء المتدفقة إلى هذه اللحظة، لحظة تحول الرصاصة لقنبلة جيوسياسية شاملة، وفي هذا الاستدعاء إجابة على سؤال جدوى المقاومة وكيف ستجلب النصر وكل أسئلة السفسطة والتثبيط المصاحبة لهذا السؤال. إن التغيير النوعي الذي أحدثه فتح دمشق يعود الفضل المباشر فيه للطوفان الذي تمتد قصته عبر أنفاق غزة إلى ثورات الربيع، إلى الانتفاضة الثانية قبل نحو ربع قرن من الزمن.

ختامًا، تبدو المقاومة اليوم، في امتدادها من غزة إلى دمشق وبتنوع بُناها وأشكالها، أشبه بفعلٍ خلاّق يعيد رسم خرائط المنطقة ويبعث الحياة في قيم أوشكت على الأفول. إنها ليست مجرد رصاصة تنطلق لتصيب هدفا، بل هي معول يهدم ركائز الأنظمة المتهالكة ويكشف عجز القوى المهيمنة عن الاستمرار في شرعنة استبدادها، وهي في الوقت نفسه بذرة تُزرع في وعي الشعوب كي تتعاظم مطالبتها بحقوقها وعدالة قضاياها. لقد حطم فعل المقاومة شرنقة “الهدوء” المزعوم، وانتشل بوصلة الرأي العام الدولي من قبضة المنظومات القديمة، فأعاد الاعتبار لمنطق التحرر والكفاح.

إن قدرة الرصاصة الواحدة على خلخلة علاقات القوى الدولية وبناء مسارات جديدة تتجاوز أعتى الحسابات الأمنية، تشير إلى أن صمود المقاومة وأفكارها يتجاوز مدى الصواريخ والمواقع العسكرية إلى آفاق أرحب من التغيير السياسي والاجتماعي والفكري. فحيثما ارتفعت يد تقاوم، هناك فرصة لإحداث تحول شامل في طبيعة التحالفات والشرعيات، قد يتعثر قليلًا أو يتباطأ أحيانًا، لكنه في نهاية المطاف يعيد تشكيل الوعي الجمعي بما يكرس الهوية ويعمق الإحساس بالكرامة. وهكذا، فإن سطور التاريخ التي تُكتب اليوم على أرض غزة، ستتردد أصداؤها في كل عاصمة تغمرها أحلام التحرر، لتُعيد صياغة العالم في صورةٍ جديدة، وتؤكد أن جذوة المقاومة إذا اشتعلت فلن تطفئها معادلات الردع ولا حسابات القوى العظمى.

إقرأ أيضًا

أحداث ومناشط قادمة

الأحدث

الأعلى مشاهدة

من معرض الصور