مقال بعنوان: التكنولوجيا تغزو عقولنا، بقلم الجيلي حمدان.
لم يعد العنف في العصر الحديث مرتبطًا بالعنف الجسدي، أو القمع السياسي الصريح، بل أصبح غزوا حقيقيا لعدو يتسلل إلينا عبر الشاشات والخوارزميات؛ يحد من خياراتنا، ويوجه تفكيرنا، دون أن نشعر؛ فمع التقدم السريع في التكنولوجيا، تحوّلت حياتنا بشكل جذري إلى متاهات، ودوائر مفرغة، تنعدم فيها أساسيات الحياة التي كنا نعيشها وتعيشها مجتمعاتنا سلفا؛ حيث أصبحنا نعتمد كليا على الأجهزة الذكية، والذكاء الاصطناعي، ووسائل التواصل الاجتماعي، في معظم أنشطتنا اليومية، وهو نوع جديد من أنواع الغزو، والقهر، والعنف، الذي لا يأتي من الحكومات أو السلطات التقليدية، بل من أنظمة تكنولوجية تسللت إلى تفاصيل حياتنا.
تراقبنا عن كثب، وبشتى الطرق؛ وتؤثر فينا بشكل مباشر وعلى قراراتنا، وتقيد حريتنا بطرق غير مرئية؛ حيث تقوم تلك الشركات التقنية، بجمع كميات مهولة من البيانات عنا كمستخدمين؛ بدءًا من المواقع التي نزورها بشكل شبه يومي؛ واهتماماتنا، بل حتى مشاعرنا، وردود أفعالنا، وهذه المعلومات لا تُستخدم بالطبع لتحسين الخدمات فقط، بل أيضًا للتلاعب بسلوكنا؛ من خلال الإعلانات المستهدفة، وحتى التأثير على آرائنا السياسية والاجتماعية؛ والواقع الماثل يوضح ذلك بجلاء؛ فالخوارزميات الذكية، المصممة لزيادة التفاعل على المنصات الاجتماعية، كالفيس بوك، وتويتر، وإنستغرام، وغيرها ليست لصالحنا تماما، وإنما هي في حقيقتها، فقاعات فكرية، تحاصرنا من حيث لا نرى؛ مما يجعلنا أكثر عرضة للاستقطاب والتلاعب الفكري؛
وهذا التوجيه غير المباشر بالتأكيد يمنعنا من التفكير النقدي، ويجعلنا أدوات في أيدي الجهات التي تتحكم في تلك المنصات.
لقد استحكمت التكنولوجيا واستحوذت بشكل كامل على العلاقة، بين الأب وابنه، فلا يجلس إليه ولا يداعبه، ولا يراقبه، ولا يتكلم إليه، ولا يراجع معه دروسه، ولا يسأله عن أصحابه، وعلاقاته، وكيف هم أصدقاؤه؛ استبدلت مائدة الطعام التي كانت برلمانا اجتماعيا مصغرا للعائلة بحلقات ودائرة فارغة من حياة الوجوم والتوحد؛ وبدلا من التحلق حول قيمنا، تحلقنا حول تلك الشاشات الصغيرة المتنقلة والثابتة، وصارت شغلنا الشاغل؛ ومشاهدة تلك الشاشات الصغيرة والكبيرة هو بلا شك سيمنع الإبداع الداخلي النشط؛ فقضاء الساعات الطوال في الجلوس، لمراقبة ذلك العالم الزائف، على الشاشات بلا شك سيولد تعارضاً كبيرا مع الوالدين الذين ليس لديهم وقت لصغارهم، مما يدفعهم للاستسلام وبشكل أكثر طواعية لسحر تلك الشاشات وقوة جاذبيتها، لتصبح هي الراعي لشئون أبنائنا، والمتحدث معهم؛ فهي التي تلاعبهم، وتأخذهم إلى عالم من الأوهام السحرية شيئا فشيئا، فهي الصبورة التي لا تتذمر من شيء، وهو ما يترجمه الطفل كحالة من الحب، وكما هو الحال في جميع وسائل الإعلام ، لذلك علينا أن نكون مدركين لهذا الغزو الكبير والخطير على أذهاننا.
إن القهر الزاحف بواسطة التكنولوجيا والغزو الخطير لعقولنا ليس مجرد نظرية، بل حقيقة نعيشها يوميًا، ففي الوقت الذي تمنحنا فيه التكنولوجيا وسائل راحة غير مسبوقة، فإنها في الوقت نفسه تقيد حرياتنا بطرق خفية؛ لذا، فإن التحدي الأكبر الذي نواجهه اليوم هو كيفية الاستفادة من التكنولوجيا دون أن نصبح عبيدًا لها.
وللحد من ذلك الغزو ولوصول الفائدة المرجوة فقد وَضع بعض خبراء التقنية بعض المتطلَّبات المهمة، كتخصيص أوقات محددة لاستخدام الهاتف والإنترنت، وتطبيق تقنية (ساعة بلا إنترنت)، والحد من الإشعارات، والأهم من ذلك كله العودة للواقعية،
واستبدال ساعات الإنترنت بنشاط أكثر فائدة، كقراءة الكتب، والانشغال بما يفيد صحة العقل والبدن، والاستخدام الآمن، بوعي وتوازن.